فصل: ومن باب من يعطى الصدقة وحَدّ الغنى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب تعجيل الزكاة:

قال أبو داود: حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا شبابة عن ورقاء، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على الصدقة فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلاّ أن كان فقيرا فأغناه الله. وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا فقد أحبس أدراعه وعتاده في سبيل الله. وأما العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليّ ومثلها ثم قال أما شعرت أن عم الرجل صنو الأب أو صنو أبيه».
قوله: «ما ينقم ابن جميل إلاّ أن كان فقيرا فأغناه الله» فيه دليل على أن مانع الصدقة إذا لم يكن ممتنعا بقتال وقوة وسلاح فإنها تستخرج منه ولا يعاقب عليه. وإنما كان قتال أبي بكر مانعي الزكاة لأنهم امتنعوا من أدائها واعترضوا دونها بالسلاح.
وقوله: «إن خالدًا أحبس أدراعه وعتاده في سبيل الله» فإن العتاد كل ما أعده الرجل من سلاح أو مركوب وآلة للجهاد يقال اعتدت الشيء إذا هيأته، ومن هذا سميت عتيدة العطر والزينة، وتأويل هذا الكلام على وجهين أحدهما أنه إنما طولب بالزكاة عن أثمان الأدراع والعتاد على أنها كانت عنده للتجارة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا زكاة عليه فيها إذ قد جعلها حبسا في سبيل الله.
وفيه دليل على وجوب الزكاة في الأموال التي ترصد للتجارة وهو كالإجماع من أهل العلم. وزعم بعض المتأخرين من أهل الظاهر أنه لا زكاة فيها وهو مسبوق بالإجماع.
وفي الحديث دليل على جواز إحباس آلات الحروب من الدروع والسيوف والحجف. وقد يدخل فيها الخيل والإبل لأنها كلها عتاد للجهاد. وعلى قياس ذلك الثياب والبسط والفرش ونحوها من الأشياء التي ينتفع بها مع بقاء أعيانها.
وفيه دليل على أن الوقف والحبس قد يصح من غير إخراج من يد الواقف والمحبس وذلك أن الشيء لو لم يكن في يده لم يكن لمطالبته بالزكاة عنه معنى.
والوجه الآخر أن يكون معناه أنه قد اعتذر لخالد ودافع عنه يقول إذا كان قد احبس أدراعه وعتاده في سبيل الله تبررًا وتقربًا إليه سبحانه وذلك غير واجب عليه فكيف يجوز عليه منع الصدقة الواجبة عليه.
وقوله في صدقة العباس «هي عليَّ ومثلها» فإنه يتأول على وجهين أحدهما أنه كان قد تسلف منه صدقة سنتين فصارت دينًا عليه.
وفي ذلك دليل على جواز تعجيل الصدقة قبل محلها وقد اختلف العلماء في ذلك فأجاز كثير منهم تعجيلها قبل أوان محلها، وذهب إليه الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي والشافعي، وكان مالك بن أنس لا يرى تعجيلها عن وقت محلها. وروي عن الحسن البصري أنه قال إن للصلاة وقتا وللزكاة وقتا فمن صلى قبل الوقت أعاد، ومن زكى قبل الوقت أعاد.
قلت: قول الحسن البصري ظاهر والمعنى بخلافه لأن الأجل إذا دخل في الشيء رفقًا بالإنسان فإن له أن يسوس من حقه ويترك الارتفاق به كمن عجل حقا مؤجلا لآدمي وكمن أدى زكاة مال غائب عنه وإن كان على غير يقين من وجوبها عليه لأن من الجائز أن يكون ذلك المال تالفا في ذلك الوقت.
والوجه الآخر هو أن يكون قد قبض صلى الله عليه وسلم منه صدقة ذلك العام الذي شكاه فيها العامل وتعجل صدقة عام ثان، وقال هي عليّ ومثلها أي الصدقة التي قد حلت وأنت تطالبه بها مع مثلها من صدقة عام واحد لم تحل وذلك أن بعض من أجاز تعجيل الصدقة لم يجوزها أكثر من صدقة عام واحد.
وقد يحتمل معنى الحديث أن يكون صلى الله عليه وسلم قد تحمل بالصدقة وضمن أداءها عنه لسنتين ولذلك قال إن عم الرجل صنو أبيه يريد أن حقه في الوجوب كحق أبيه عليه إذ هما شقيقان خرجا من أصل واحد فأنا أنزهه عن منع الصدقة والمطل بها وأؤديها عنه والأول أصوب لأن الضمان فيما لم يجب على العباس ضمان مجهول وضمان المجهول غير جائز. وقد روي أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له في تعجيل صدقته فرخص له في ذلك. وقد رواه أبو داود.
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الحجاج بن دينار عن الحكم عن حُجَية عن علي رضي الله عنه أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن يحل فرخص له في ذلك وقال مرة فأذن له في ذلك.
وقوله: «صنو أبيه» معناه أن العم شقيق الأب وأصل ذلك في النخلتين تخرجان من أصل واحد يقال صنو وصنوان وقنو وقنوان وقل ما جاء من الجمع على هذا البناء.
وقد روى حديث العباس على خلاف هذا الوجه وهو أنه قال في صدقته هي عليه ومثلها معها، وقد رواه أبو عبيد وقال أرى أنه كان أخر عنه الصدقة عامين وليس وجه ذلك إلاّ أن يكون من حاجة بالعباس إليها فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان ذلك على وجه النظر ثم يأخذها منه بعدُ. حدثنيه عبد الله بن محمد المسكي حدثنا علي بن عبد العزيز، عَن أبي عبيد.

.ومن باب من يعطى الصدقة وحَدّ الغنى:

قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خُموش أو خُدوش أو كدوح في وجهه فقيل يا رسول الله وما الغنى قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب». قال يحيى: فقال عبد الله بن عثمان لسفيان حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير فقال سفيان فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد.
قلت: الخموش هي الخدوش، يقال خمشت المرأة وجهها إذا خدشته بظفر أو حديدة أو نحوها، والكدوح الآثار من الخدش والعض ونحوه، وإنما قيل للحمار مكدّح لما به من آثار العضاض.
وأما تحديده الغنى الذي يحرم معه الصدقة بخمسين درهما فقد ذهب إليه قوم من أهل العلم ورأوه حدا في غنى من تحرم عليه الصدقة منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وأبى القول به آخرون وضعفوا الحديث للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم، قالوا وأما ما رواه سفيان فليس فيه بيان أنه أسنده وإنما قال فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد حسب، قالوا وليس في الحديث أن من ملك خمسين درهما لم تحل له الصدقة، إنما فيه أنه كره له المسألة فقط وذلك أن المسألة إنما تكون مع الضرورة ولا ضرورة بمن يجد ما يكفيه في وقته إلى المسألة.
وقال مالك والشافعي لا حد للغنى معلوم وإنما يعتبر حال الإنسان بوسعه وطاقته فإذا اكتفى بما عنده حرمت عليه الصدقة وإذا احتاج حلت له.
قال الشافعي قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع كسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله.
وجعل أصحاب الرأي الحد فيه مائتي درهم وهو النصاب الذي تجب فيه الزكاة وإنما أمرنا أن نأخذ الزكاة من الأغنياء وأن ندفعها إلى الفقراء وهذا إذا ثبت أنه غني يملك النصاب الذي تجب عليه فيه الزكاة فقد خرج به من حد الفقر الذي يستحق به أخذ الزكاة.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال: «نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله لنا شيئا نأكله فجعلوا يذكرون من حاجتهم فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا أجد ما أعطيك فتولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول لعمري إنك لتعطي من شئت فقال صلى الله عليه وسلم يغضب عليَّ أن لا أجد ما أعطيه من سأل منكم وعنده أوقية أو عَدلها فقد سأل إلحافا قال الأسدي فقلت لَلِقْحة لنا خير من أوقية قال فرجعت ولم أسأله فقدم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شعير وزبيب فقسم لنا منه أو كما قال حتى أغنانا الله».
اللقحة الناقة المِرية وهي التي تمري أي التي تحلب وجمعها لقاح، والأوقية عند أهل الحجاز أربعون درهما. وذهب أبو عبيد القاسم بن سلام في تحديد الغني إلى هذا الحديث، وزعم أن من وجد أربعين درهما حرمت عليه الصدقة.
وقوله: «أو عدلها» يريد قيمتها، يقال هذا عدل الشيء أي ما يساويه في القيمة.
وهذا عدله بكسر العين أي نظيره ومثله في الصورة والهيئة.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا مسكين حدثنا محمد بن المهاجر عن ربيعة بن يزيد، عَن أبي كبشة السلولي حدثنا سهل بن الحنظلية قال: «قدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فسألاه فأمر لهما بما سألاه وأمر معاوية فكتب لهما بما سألاه. فأما الأقرع بن حابس فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق. وأما عيينة فأخذ كتابه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مكانه فقال أتراني يا محمد حاملا إلى قومي كتابا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار فقالوا يا رسول الله وما يغنيه قال قدر ما يغديه ويعشيه».
صحيفة المتلمس لها قصة مشهورة عند العرب وهو المتلمس الشاعر وكان هجا عمرو بن عبد الملك فكتب له كتابا إلى عامله يوهمه أنه أمر له فيه بعطية وقد كان كتب إليه يأمره بقتله فارتاب المتلمس به ففكه وقرئ له، فلما علم ما فيه رمى به ونجا فضربت العرب المثل بصحيفته بعد.
وقوله: «ما يغديه ويعشيه» فقد اختلف الناس في تأويله فقال بعضهم من وجد غداء يومه وعشاءه لم تحل له المسألة على ظاهر الحديث.
وقال بعضهم إنما هو فيمن وجد غداء وعشاء على دائم الأوقات فإذا كان عنده ما يكفيه لقوته المدة الطويلة فقد حرمت عليه المسألة.
وقال آخرون هذا منسوخ بالأحاديث التي تقدم ذكرها. قلت وإنما أعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من سهم المؤلفة قلوبهم فإن الظاهر من حالهما أنهما ليسا بفقيرين وهما سيدا قومهما ورئيسا قبائلهما.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد الله، يَعني ابن عمر بن غانم عن عبد الرحمن بن زياد أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي أنه سمع زياد بن الحارث الصُدائي قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته قال فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك».
قلت: في قوله: «فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك» دليل على أنه لا يجوز جمع الصدقة كلها في صنف واحد وأن الواجب تفرقتها على أهل السهمان بحصصهم ولو كان معنى الآية بيان المحل دون بيان الحصص لم يكن للتجزئة معنى وسل على صحة ذلك قوله: «أعطيتك حقك» فبين أن لأهل كل جزء على حدة حقًا وإلى هذا ذهب عكرمة وهو قول الشافعي.
وقال إبراهيم النخعي إذا كان المال كثيرا يحتمل الأجزاء قسمه على الأصناف وإن كان قليلا جاز أن يوضع في صنف واحد.
وقال أحمد بن حنبل تفريقها أولى ويجزئه أن يضعه في صنف واحد.
وقال أبو ثور إن قسمه الإمام قسمه على الأصناف وإن تولى قسمه رب المال فوضعه في صنف واحد رجوت أن يسعه.
وقال مالك بن أنس يجتهد ويتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخَلة والفاقة فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدمهم. وإن رآها في أبناء السبيل في عام آخر حولها إليهم.
وقال أصحاب الرأي هو مخير يضعه في أي الأصناف شاء.
وكذلك قال سفيان الثوري، وقد روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح.
وفي قوله: «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو» دليل على أن بيان الشريعة قد يقع من وجهين أحدهما ما تولى الله بيانه في الكتاب وأحكم فرضه فيه فليس به حاجة إلى زيادة من بيان النبي صلى الله عليه وسلم وبيان شهادات الأصول.
والوجه الآخر ما ورد ذكره في الكتاب مجملا ووكل بيانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو يفسره قولا وفعلا أو يتركه على إجماله ليتنبه فقهاء الأمة ويستدركوه استنباطا واعتبارا بدلائل الأصول وكل ذلك بيان مصدره عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولم يختلفوا في أن السهام الستة ثابتة مستقرة لأهلها في الأحوال كلها، وإنما اختلفوا في سهم المؤلفة فقالت طائفة من أهل العلم سهمهم ثابت يجب أن يعطوه هكذا قال الحسن البصري.
وقال أحمد بن حنبل يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك. وقالت طائفة انقطعت المؤلفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم روي ذلك عن الشعبي. وكذلك قال أصحاب الرأي.
وقال مالك سهم المؤلفة يرجع على أهل السهام الباقية.
وقال الشافعي لا يعطى من الصدقة مشرك يتألف على الإسلام. وأما العاملون فهم السعاة وجباة الصدقة فإنما يعطون عمالة قدر أجرة مثلهم. فأما إذا كان الرجل هو الذي يتولى إخراج الصدقة وقسمها بين أهلها فليس فيها للعاملين حق.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالا: حَدَّثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يفطنون به فيعطونه».
قلت: الأكلة مضمومة اللقمة والأكلتان اللقمتان، فأن الأكلة مفتوحة فهي الواحدة والمرة من الأكل.
وفي الحديث دليل على أن المسكين في الظاهر عندهم والمتعارف لديهم هو السائل الطواف وإنما نفى صلى الله عليه وسلم عنه اسم المسكنة لأنه بمسألته تأتيه الكفاية، وقد تأتيه الزيادة عليها فتزول حاجته وسقط عنه اسم المسكنة، وإنما تدوم الحاجة والمسكنة ممن لا يسأل ولا يفطن له فيعطى.
وقد اختلف الناس في المسكين والفقير والفرق بينهما روي عن ابن عباس أنه قال المساكين هم الطوافون والفقراء فقراء المسلمين وعن مجاهد وعكرمة والزهري أن المسكين الذي يسأل والفقير الذي لا يسأل.
وعن قتادة أن الفقير هو الذي به زمانة والمسكين الصحيح المحتاج.
وقال الشافعي الفقير من لا مال له ولا حرفة يقع منه موقعا زمنًا كان أو غير زمن وللمسكين من له مال أو حرفة لا تقع منه موقعا ولا تغنيه سائلا كان أو غير سائل. وقال بعض أهل اللغة المسكين الذي لا شيء له والفقير من له البلغة من العيش واحتج بقول الراعي.
أما الفقير الذي كانت حَلوبته ** وَفْقَ العيال فلم يترك له سَبَد

قال فجعل للفقير حلوبة، وقال غيره من أهل اللغة إنما اشترط له الحلوبة قبل الفقر فلما انتزعت منه ولم يترك له سبد صار فقيرا لا شيء له، قال والمسكين أحسن حالا من الفقير، واحتج بقول الله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} [الكهف: 79] فأثبت لهم مع المسكنة ملكاَ وكسبا وهما السفينة والعمل بها في البحر. وقال بعض من ينصر القول الأول إنما سماهم مساكين مجازا وعلى سبيل الترحم والشفقة عليهم إذ كانوا مظلومين، وقيل إن المسكنة مشتقة من السكون والخشوع اللازمين لأهل الحاجة والخصاصة والميم زيادة في الاسم. وقيل إن الفقير مشبه بمن أصيب فِقاره فانقصف ظهره من قولهم فقرت الرجل إذا أصبت فقاره كما يقال بطنته إذا أصبت بطنه ورأسته إذا أصبت رأسه إلى ما أشبه ذلك من نظائر هذا الباب. ويشبه أن يكون الفقير أشدهما حاجة ولذلك بدئ بذكره في الآية على سائر أصناف أهل الفاقة والخلة والفقر هو الذي يقابل الغنى إذا قيل فقير وغني فصار أصلا للفاقة وعنه يتفرع المسكنة وغيرها من وجوه الحاجة.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان «أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جَلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب».
قلت: هذا الحديث أصل في أن من لم يعلم له مال فأمره محمول على العدم.
وفيه أنه لم يعتبر في منع الزكاة ظاهر القوة والجلد دون أن يضم إليه الكسب فقد يكون من الناس من يرجع إلى فتوة بدنه ويكون مع ذلك أخرق اليد لا يعتمل فمن كان هذا سبيله لم يمنع من الصدقة بدلالة الحديث. وقد استظهر صلى الله عليه وسلم مع هذا في أمرهما بالإنذار وقلدهما الأمانة فيما بطن من أمرهما.
قال أبو داود: حدثنا عباد بن موسى الختلي حدثنا إبراهيم، يَعني ابن سعد أخبرني أبي عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرة سَوِي».
قلت: معنى المرة القوة وأصلها من شدة فتل الحبل؛ يقال أمررت الحبل إذا أحكمت فتله فمعنى المرة في الحديث شدة أسر الخلق وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكد والتعب.
وقد اختلف الناس في جواز أخذ الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب فقال الشافعي لا تحل له الصدقة، وكذلك قال إسحاق بن راهويه وأبو عبيد.
وقال أصحاب الرأي يجوز له أخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم فصاعدًا.